مقالات

مارس 20, 2020   

 طالما شكّل فن التصوير عالماً من الدهشة، والتوثيق للحظات هاربة، لهذا ليس غريباً ونحن نعيش أقسى حالات العنف، أن نعتبر الحكم يصبح في الغائب إذا لم يتوسل بالصورة لإظهاره، لذلك قالوا، أن تكون مصوراً، يعني أن صوتك مسموع. 

 ونظراً لأهمية الصورة فقد رأى المصور السوري كمال أوغلي إن تصويره للأماكن المهمشة في سوريا، جعله يكتشف حجم الإهمال والفقر والتهميش الذي يعاني منه السوريون، وإن الصورة هي اللغة البصرية الأقوى في الثورة السورية، التي شكّلت وجهاً حقيقياً لإدانة الظلم والاستبداد، وتكالب القوى علينا، أمام هذا المشهد  يكفي أن  ندين العالم من خلال الصورة، “تخيلوا لو لم تصل صورنا إلى كل أنحاء الأرص ماذا كان سيحدث ؟”.

 ولأننا نعيش زمن الصورة، التي دخلت في التاريخ، واليوميات، والطبيعة والجمال، وهوية المكان، والإعلام، وكل مجالات الحياة، كان لنا هذا اللقاء مع المصور السوري الذي احترف التصوير التوثيقي كمال أوغلي.

حول فلسفته من التصوير، وأهمية الصورة يقول: “أحاول أن أقتنص الزمان والمكان، باللقطة، لتثبيت اللحظة قبل أن تهرب، فالصورة الناجحة عندي، هي هذه اللحظة، إضافة إلى اشتغالي على فكرة الصورة كمشروع، كي أكتب باللغة البصرية ما أريد، بجانب عشقي للصورة التي تمجّد الحياة، والجمال والطبيعة، والوجوه، الفقر، وثقافة المكان.

 ويضيف، الصورة فن، وأهم مكونات اللغة البصرية التي يفهمهما العالم، كونها لغة قائمة بذاتها، وأهم أدوات علم الجمال إلى جانب الموسيقا، والفنون الأخرى، لهذا فإن الرؤية لا تكفي وحدها، لا بدّ من الشعور بما يمكن التقاطه.

 من هنا فإنّ الصورة تصدمك وتهزّ وجدانك بلحظة ما، كما هي في زمن الحروب، والمجاعات، فإنها، أي الصورة، تقدم لك أشياء، قد تعجز اللغة عن وصفها، تُقدم قراءة مختلفة عن اللغة للكثير الكثير من المواضيع والتي تكثفها بمساحة مهما كانت صغيرة، فإن العين تستطيع قراءتها بسهولة ومن غير عناء، تلك  هي ميّزة الصورة وسحرها.

 بدايات الشغف:

ويشير إلى أن بداية تجربته مع التصوير كانت سنة 1980يقول: “كنت حينها أعمل بشكل مركّز على مشاريع، مع مجموعة من الأصدقاء بنادي التصوير الضوئي بدمشق، بدأت  علاقتي بالصورة كبعد ترفيهي، وكان متاحاً لي أن أمارس ما أحب منذ صغري، وكان لدي كاميرا “زينيت” الروسية، والتي أهداني إيّاها والدي.

 عندما بدأت كهاوٍ شجعني الكثير من الأصدقاء، وقد كان منهم محترفين وفنانين مهمين في ذاك الوقت، وساعدوني على أن أطوّر مهاراتي بالتصوير بعد أن أخبروني أن لديّ عيناً فنية مميزة وموهبة حقيقيّة، وهو مادفعني أكثر للاهتمام بالتصوير، الذي سرعان ما أصبح شغفاً حقيقياً وسحرياً بالنسبة لي.

الاحتراف والسفر:

 ولأن لكل مصور بصمته، ولكل صورة لغتها، فقد ميّز بين الهواية التي تعتبر حالة من الترف، وبين الاحتراف الذي يجمع بين جماليات الصورة، والمهنة”.

هل أقول إنه الطريق، أم السفر نحو الصورة، هذا الفن الذي شغلني في بداية التجربة عشر سنوات، صورت خلالها الكثير من المواضيع، الطبيعة والبورتريه والآثار، بعد ذلك انقطعت عن هذا الفن بسبب ظروف عملي، لكنني عدت إلى التصوير بقوة وبقرار، فقرّرت أن أحترف التصوير التوثيقي لأرضي هوايتي وشغفي.

 يتابع: “الذي شدّني إلى التصوير هو أنّي كنت أرى الأشياء بشكل مختلف من خلال العدسة، التفاصيل الدقيقة في أي موضوع، كنت أوظّفها بالمواضيع التي أصوّرها وأظهر جماليتاها وأهميتها، حتى إني كنت أحسب تأثيرها النفسي على المتلقي، وأحاول دائماً أن تكون المواضيع التي أصوّرها مختلفة عن القواعد التقليدية للتصوير من حيث تكوين العناصر، فعلم لغة الصورة مهم جداً، اللون ودلالاته، التفاصيل الصغيرة، أي الجمع بين البصر والبصيرة، وتكثيف الشعور في الصورة”.

 توثيق الأماكن المهمشة:

 شكّلت تجربة “أوغلي”، حالة من التنوع، وتميزت بما رصدته في المكان، فما الذي شدّه إلى هذا العالم، وكيف مضى إلى المشروع  لاسيما  توثيق الأماكن المهمشة بالصورة، عنها يقول: “أحببت جميع أنواع التصوير دون استثناء، وجربت العديد منها وشاركت بمعارض عدة داخل وخارج سوريا، حتى استقريت أخيراً على المواضيع التوثيقية التي تخص الإنسان وتخدمه”.

 ويتابع: “إن إحدى أهمّ المواضيع إن لم يكن الأهم في حياتي والتي عملت عليها، مشروع توثيق المناطق المهمّشة في جميع أنحاء سوريا وخصوصاً الأرياف في عام 2007، هذا المشروع الذي أعتبره من أهم منجزات مسيرتي الفوتوغرافية، كونه أطلعني على حقيقة الوضع السوري، بعيداً عن الرتوش أو المجمّلات، صوّرت كل المدن وأكثر من 90 بالمئة من قرى سوريا كافّة، واكتشفت حجم الإهمال والتهميش والفقر الذي كان يعاني منه معظم السوريين وبجميع المناطق، بالإضافة إلى اكتسابي خبرة فنّية عالية بهذا النوع من التصوير كونه أصعب أنواع التصوير لشموليته وكثرة تفاصيله، وأصبح لدي أرشيف هام جداً لذلك الموضوع، يكفي أن أقول إنه برغم وجود مئات آلاف المصورين المحترفين حول العالم إلّا أن المصورين الذين عملوا على مشاريع مشابهة للمشروع الذي عملت عليه لايتجاوزون ال 200 مصور على مستوى العالم.

 حضارة الطين:

 وحول حضارة الطين، والصور المدهشة التي وثقها بالصورة، يقول:

 حضارة الطين كان آخر المعارض التي جهّزتها للعرض، والغرض من هذا المعرض هو إلقاء الضوء على تاريخ سوريا وحضاراتها وأصالتها من فجر التاريخ، فسوريا هي الامتداد الطبيعي لميزوبوتاميا أول حضارات التاريخ التي بدأت بحضارة أورك مروراً بجميع حضارات المنطقة والتي تعد أكثر من 320 حضارة مرت على هذه الأرض منذ أكثر من 7 آلاف سنة والتي يسعون لتدميرها الآن، ومحو هويتنا من خلال ذلك.

 تجربة الصوفيين:

 غادر سوريا إلى السودان الشقيق، وهناك لفته همّ الناس بين شمال وجنوب، وشدّه أيضاً مارآه من بعد صوفي شعبي، فاشتغل على هذين الموضوعين، عنا يقول: “غادرتُ سوريا سنة 2009 إلى السودان بداعي العمل، وبقيت هناك أكثر من أربع سنوات، وقد أثمر شغلي معرضين، الأول حول ضرورة الوحدة والعوامل المشتركة بين الشمال والجنوب، وقد صوّرت موضوعات تخدم هذا المشروع. 

 المعرض الثاني، جاء نتيجة عمل مثمرة لمشروع توثيق عن الصوفية، وقد لفتني في المجتمع السوداني جانب التصوّف والفِرَق الصوفيّة، وبدأت بالعمل، كما توسّعت الفكرة لتشمل توثيق الصوفية بعدة دول لتأثيرها الاجتماعي، لكن المشروع توقّف مؤقتاً أولاً بسبب مجريات الثورة حينها، وثانياً بسبب انتقالي لتركيا، وعدم قدرتي على العودة لسوريا لموقفي المناهض للنظام،  لكني مازلت مصراً على إكمال هذا المشروع لحين توفر الظروف المناسبة.

 ويتابع: “حاولت إكمال المشروع بتركيا كونها من أهم مراكز الصوفية أيضاً، لكن لم استطع الحصول على تمويل للمشروع حتى الآن كونه يحتاج لمصاريف كبيرة ليس لدي القدرة على تحملها بمفردي بظروفي الحالية”.

 الطبيعة عودة للجمال:

ويؤكد إنه في تركيا وبعد وصوله في 2014: “زرتُ عدة مدن تركية، وصوّرت مواضيع مختلفة منها الآثار، والطبيعة التي كنت قد انقطعت لمدة طويلة عن تصويرها، ومما حفزني على العودة لحضن الطبيعة، ذلك التنوع الجمالي، وحركة الفصول، وحاجتي لهذا الجمال، كي أستعيد توازني، بعد أن أجبرت على ترك بلدي، وهجّرت قسرياً بسبب الأوضاع المأساوية التي تمر بها، فالطبيعة مختبر عالي للجمال والفن واللغة البصرية واللونية كنز حقيقي، مهما التقطت من صور، لايمكن إحاطتها جميعها”.

 سرقة الآثار السورية:

 وعن سبب اهتمامه بتصوير الآثار، وهاجس الخوف الذي دفعه، يقول: “تصوير الآثار في سوريا تمّ على فترات ومراحل متعددة من الزمن وذلك من خلال رحلات جماعية وفردية حسب ما يسمح به الوقت حينها، وأصبح لديّ أرشيف ضخم عن آثار سوريا، واهتمامي بتصوير الآثار لما ترسخ في ذاكرتي منذ كنت صغيراً بأهميتها كونها تمثل تاريخ وهوية.

 

ويشير إلى أنّه حرص بعد ذلك على أهمية إقامة معرض: “ألقي الضوء فيه على انتهاكات الآثار السورية التي تدمّر وتسرق من قبل النظام والتنظيمات الارهابية، مثل النصرة وداعش وغيرها، والذي عانيت لمدة ثلاث سنوات حتى تمكنت من عرضه أخيراً في فرنسا، وأثناء تحضيري للمعرض طلبت مني المنظمة التي كانت تساعدني لعمل المعرض أن أدرب اليافعين والشباب السوريين على التصوير”.

 تدريب الطلاب:

 يتابع حديثه عن انتقاله، من مصور إلى مدرس: “حين طُلب مني أن أقوم بهذه المهبة شعرت بالارتباك والخوف، صحيح أنّي مصور محترف لكن لم أجرب مهنة التدريس بهذا المجال من قبل، وبعد تفكير قبلت التحدي وخضت هذا المجال الذي أخذني إلى عالم جديد، في تعليم اليافعين والشباب من الجنسين واكتشاف مواهبهم، ودعمهم ومساعدتهم على تطوير مهاراتهم بعدّة مجالات أخرى غير التصوير أيضاً، وخلال ثلاث سنوات كانت الحصيلة حوالي أكثر من 300 طالب وطالبة، تخرجوا كمصورين يجيدون التصوير، منهم 27 فنان محترف وأكبرهم لايتجاوز الـ23 سنة، وقد عملنا خمس معارض ضخمة وهامة لهؤلاء الشباب والشابات خلال تلك الفترة حيث حققت حضوراً جماهيرياً لافتاً.

 ولأنّ الصورة وجه الإدانة، فقد لعبت دوراً مهماً في توثيق جرائم النظام، وكل من جاء و وقف معه، عن أهمية الصورة خلال تسع سنوات ثورة وحرب وعنف لامثيل له، يقول: “لعبت الصورة دوراً كبيراً في إيصال معاناتنا للعالم، تعذيب المعتقلين، ضرب الناس، صور المدن المهدمة، الناس تحت الأنقاض، صرخة أم، بكاء طفل، أطفال مقطوعو الأطراف، وطنٌ مشوه بالمطلق، ومازالت الصورة صوت حقيقي لتصحو الضمائر النائمة، تخيلوا لو لم تلعب الصورة وتكنولوجيا إيصالها إلى كل أنحاء الأرص ماذا كان سيحدث؟. 

 ويتابع: “أتذكر مقولة لجان لوك والتي فحواها: (يتمثل العنف فيما يتركه من علامة)،  وهو ما تقوم به الصورة، بدون صورة لم تكن ستظهر المذبحة للعالم، وكان سيفلت الجلاد من العقاب، كما حدث في مجزرة حماة عام 1982، عتّم النظام على الموضوع، لكنه لم يستطع أن يمحو الأثر ولا الذاكرة.

 ويشير إلى أنّه “في ثورتنا العظيمة، كان متاحاً للشباب الشجعان وسائل سريعة، لاسيما الموبايل والكاميرا، فاستطاعوا توثيق ما يحدث، وتحوّل قسم منهم إلى مراسلين ومصوري حرب، بفضل شجاعة أولئك الشباب الذين كسروا حاجز الخوف وهيبة النظام المجرم وكان سلاحهم الصورة”.

 وثيقة لا تحتمل التزييف:

 وعلى طرفٍ آخر، يؤكد بأن الصورة وثيقة لاتحتمل التزييف: “قد تقولين هناك برامج تستطيع أن تزيّفها، فأقول لك وهناك أيضاً برامج تكشف التزييف، وأكبر مثال على ذلك هي صور قيصر كما تعلمين والقانون الأول من نوعه في العالم، والذي يعتمد الصورة كدليل وحيد على الإدانة فتلك سابقة مهمة جداً تبين خطورة وأهمية الصورة بآن واحد والتي أرجو أن تلعب دوراً مهماً بقضية المعتقلين، قضيتنا الأولى وربما الأهم حتى الآن، والتي يعمل عليها منظمات مختصة بموضوع المعتقلين، ومنها “ناجون”، التي كان لي شرف المشاركة بالعمل معهم ولو لوقت قصير”.

 نشر ثقافة الصورة:

 عن أهمية اللغة البصرية، كبعدٍ جمالي، وربما كتكثيف روائي عالي، وأهمية نشر هذه الثقافة بين عامة الناس يقول: “اللغة البصرية برأيي هي الأهم، من خلالها نتأمل، نتكلم، نتألم أيضاً، أو نندهش، فنصف ما نراه، ونكتب ما نشاهده، فكم من صورة واحدة تروي حكاية وقصيدة ومأساة.

ومن هذا المنطلق ولفقر الثقافة البصرية بمجتمعاتنا بسبب التجهيل والتحريم الممنهج للصورة، وبسبب خطورتها التي تعيها  الأنظمة، أخذت على عاتقي شعار نشر ثقافة الصورة أولاً، من خلال تدريب الشباب، وثانياً من خلال إنشاء قناة على اليوتيوب تكرّس هذا الشعار”.

 ويضيف: “من خلال هذه القناة أحاول أن أوصل رسائل مختلفة منها تأثير الصورة، علينا وعلى جميع المواضيع الآنية والبعيدة المدى، إلى جانب كيفية قراءتها بشكل صحيح وفهم المعاني للرسائل والمواضيع التي تتناولها، وكيفية توظيفها لصالح الحرية أولاً وأخيراً”.

 كما لفت بأن هناك جانب آخر للقناة: ” إلقاء الضوء على أعمال الكثير من الفنانين المصورين السوريين، وبالكاد يعرف أحد أي شيء عن أعمالهم وأرشيفهم الهام، و الذي يجسّد مراحل مختلفة وهامة من تاريخ سوريا الفني والتوثيقي.

 وحسب اطلاعي لايوجد قناة على اليوتيوب تتناول نفس المحتوى، فلذلك أحببت أن أكون المبادر الأول بهذا المجال الهام، إنها منصة للحديث عن الصورة وشغفي المستمر بها وما تعنيه لي من شجون وأحزان ودروس ووقائع وحقائق ومدى أهميتها وأهمية فلسفتها الواقعية والخيالية والجمالية في آن واحد لي وللناس جميعاً”.

 جوائز واعتراف:

 عنها يقول: “إنّ الحصول على جائزة هو لحظة خاصّة بالنّسبة لي. إنّ الجائزة تعني لي اعترافاً دائماً بأسلوب عملي الخاصّ سيما حين يتكوّن للذّات ذاك الذّوق الرّفيع في الإحساس و تذوّق الصّورة. الجائزة أيضاً تشجّعني على العمل بجدّ والتقاط صورٍ أخرى جيّدة بل و أكثر جودة”.

 ما البورتريه أو الصورة التي تتمنى التقاطها؟

 دائما يفوّت المصور لقطات كان يتمنى أن يلتقطها أثناء مسيرته الفنية، بالنسبة لي فاتني كثير من اللقطات الجميلة والرائعة لوجوه الجدّات السوريات الجميلات لم تسمح الظروف لتحقيقها ومازلت نادماً عليها حتى الآن وأتمنى لوعاد الزمن لالتقاطها.

 

ليفانت– حوار : فاتن حمودي